السبت، 26 نوفمبر 2016

شيوخ الهَند

*شيوخ "الهَند"*

كان في بلدتي نوعين ظاهرين من الشيوخ..شيوخ عشائر، وشيوخ شعائر..وانا بصراحة كنت اشوفهم لثنين مش لازمين ومش كثير مهمين للمدينة، فشيوخ العشائر بظهروش الا في الافراح، وشيوخ الشعائر بظهروش لا في الاتراح.. لكن والحق يقال انو الثانيين اقطع من الاوليين، لانهم دايمن لابدين بهالجوامع مثل اي موظف حكومي وادع ومش فايع، عمري ما شفت واحد فيهم جار هالمصلين وماخذهم رحلة سياحية دينية او اجتماعية، او ساير فيهم في هالارض لينظرو الى الجبال كيف سُرقَتْ..والى الارزاق كيف نهبت.. او واقف قدامهم للاحتجاج على اي فساد او تخريب يصيب العباد والبلاد.. بل يكتفون بالتجوال بهم في مملكة السماء وذكر مناقب الاموات..المهم انا مش موضوعي "رجال الدين اليوم" مع اني بوعدكم اتفضالهم شي يوم..وانكشلكم خباياهم نكش لما.

بس بحب اقللكم انو انا محسوبكم لمن كان عمري 16 سنه، واجت وزارة الاوقاف افتتحت مسجد (اسامة بن زيد) بحارتنا ونقص عندهم شيخ، وشافوني الجماعة لابد 24 ساعة بهالمسجد، ساعة بزرع شجر وساعة بسقي ورد..او بتهجد، وساعة ببخر بعود الند،، وساعة ماسك السجاد وبمدو مد، او بلمع العمدان او بهش الذبان وبنطنط مثل القرد.. قامو سلموني مفتاح هالجامع وصرت افتحو كل فجر وأوذن فيه احلاها وذان، واقيم الصلاة وأئم بهالناس كمان، واكتشفتلكم مع الممارسة اليومية، انها شغلة بدهاش كثير مفهومية....وصدقوني ما بزل عليكو قعدت سنة زمان وانا على هالشغلة مكيف ونايم جوا الجامع بالحر عشان "المكيف"، واعطيتها دشداشة نص كم ومسواك ومسبحة ودفتر ابتهالات ودهن عود تبع الاموات، والناس صارو يقولو اجا الشيخ وراح الشيخ.. لبين ما جابولهم واحد مصري وعينو امام رسمي، وانا بصراحة زعلت عليهم كثير، و بطلت اصلي..واعطيتهم مفتاح جامعهم وصرت اصلي لحالي في الدار..حتى لمن ادعي ربي، ادعي انو الله يوفقني لحالي ويغفرلي لحالي..وهم يدبرو حالهم.

وفجأة انتبهت في لحظة، انو ثمة صنف ثالث من الشيوخ كانو اكثر اثرا في حياتي وحياة البلدة ، وصرت اشوف عالمكشوف، انهم اشبه بالتوابل التي لا تستقيم دونها اي طبخة رشوف، انهم (شيوخ الهند وملوك النرد) وهم على التوالي (المغفور له والدي ابوعبدالله شاهين البنا، ولنميزه بلقب شيخ السنك) والمغفور له (ابوعادل جميل الطوبرجي/شيخ البستوني)، ( والمغور له بعدين، احمد السرور ابوحسين/ شيخ الديناري)، الشيخان الاولانيان توفيان، والديناري ، اطال الله عمره، ما زال ينتظر اللحاق بالرفيقين في الاعالي، وما فرط او بدل بعدهما تبديلا..يعني بلغة "الهند" ثنين نزلو او فرشوو..والثالث بعدو ماسك عهند، لكنو صاف بالسري ومسمي ثلاث كرت..

كانو ثلاث رجال.. يتسابقو على زعامة لعبة الهند في المدينة، هذه اللعبة العريقة، قبل ان تطغى عليها بحكم تطور العصر والعمران، وبروز اجيال جديدة ممن اتو للمدينة بلعبات غريبة كالطرنيب والتريكس ..ومن يومها البلد ما شافت الخير، وفر من الارض العبهر، وانطعن الظهر بخنجر.

كان الراحلان (ابوعبدالله وابوعادل) يستلبدان صيفا شتاءً، تراهما دوما متلاصقين، كتلاصق الدائن للمدين، والغارم للغريم والكلب من اصحاب الرقيم.. لكن والدي وابوعادل (طيب الله ثراهما) لكونهما يعملان معا في ذات الكار..بقيا على ذات المسار، فطوال النهار ينهمكان في الباطون والعمار، وطوال الليل يلعبان الورق في حوش هالدار..منها تسلية ومنها قمار..على بعض الفاكهة والخضار..دون صديقهما الثالث (ابوحسين-الديناري) الذي فضل تجارة الغنم على العمل بالمالج وخُرج المسامير وخبط المسطرين..وهوى الدنانير الذهبية، بالبحش عنها وفي كل واد وبرية..و راح يهيم كالشعار، يعني باختصار نكوش كل هالمواقع وما لقى غير علبة سردين او فردة بسطار..

كانو رحمهم رب النجوم و الاقمار، يعتبرون لعبة (الهند) ليست مجرد لعبة عرضية، بل هي نمط حياة كاملة مكملة، وضرورية لا كمالية، فكان ابي ورفيقه لا يتركان الورق الا ببزوغ فجر النهار، ينفصلان ساعة او ساعتين للافطار، ثم تراهما متشعبطين فوق الاسوار يبنون سقفا هنا او يصبون عمدانا هناك، او يقصرون جدار..وكنت اراهما في الكثير من الأحيان بعلاقة طيبة مرحة ودية، يتبادلان "العدة" كما في لعبة "الشدة" حين تكون "روسية"..

_ هات يابوعبدالله زِت اخت هالشاكوش من عندك..
_يابو عادل انت راس كرت، زت يا زلمه المنشار اول من حدك.
_ بالله يابوعبدالله كم طول هالشمعة تحتك، قيسها بمترك؟
_لسا ناقصه 30 ماينوس، لو تفت عليها شوية باطون من جنبك..
_ليش الجبلة هيك ناشفة يا ريس؟
_خلي العمال ينزلوو طلبات، ويخلطوها كويس..

وهكذا كان يسير نهارهما، حتى حين وضعت صاحبة المنزل الذي يعملان على بنائه ذات نهار، لهما طعام الافطار، وكان صباحا بعد ليل حافل بالفت والقطع والادوار..ولاحظا وجود ثلاثة ارغفة خبز فقط على المائدة، فتساءلا من فورهما معا وبصوت يهمس..(ليش هذا الخبز مترس؟).

المفارقة الغريبة، انه حين توفي والدي، لم نكد ننهي العزاء في اليوم الثالث، حتى لحق به رفيقه ابوعادل، ونقلنا بيت الشعر ذاته مع الكراسي والمعزين مع الفناجين..لعزاء ابوعادل في الشارع الثالث، انا كنت مشغولا بعزاء الوالد، وجاء من يحلف لي يمين قاطع مانع، ان المقبرة لم يتوفر بها مكان لدفن ابوعادل،، وكادوا ان ينقلو جثمانه لمقبرة اخرى غير التي دفن بها والدي، لكن الاقدار ابت ذلك، اذ وجدوا اخيرا، فسحة صغيرة و وحيدة تقع بالتمام الى جوار الوالد..

بالانتقال، لثالثهم، الشيخ ابوحسين (الديناري)، فقد كان بمزاج يختلف قليلا عنهما ، اذ امضى عمره المديد في التبحيش عن الذهب دون طائل..الامر الذي اثر على مسيرته "الهندية" وشغله عن اللحاق برفيقيه الى الحياة الابدية..لكن كلي ثقة انهم سيجتمعون يوما في جنات الخلد بارواحهم النقية، ليستكملون حياتهم البهية.. فهؤلاء الرجال..من زمن اخر، غير هذا الزمن المختال، انشغلو بانفسهم عمن سواهم،، وكانو للبهجة والمرح عنوان، لم يظلمو يوما احدا، ولم يكن لديهم وقت اصلا ليغتابو احدا، لم يرتشوا، لم يسرقو لم يقتلو.. ولم ولم ولم..

اه..كم هي لعبة عظيمة هذه (الهند) وكم منحتك يا ابي حكمة وفراسة فريدة في الخلق..فبت تعلم من هو لابد عهند ومن هو فرار ومن هو على النزول دوار..حتى انه حين تقدم لخطبة شقيقتي الكبرى، لاعب القدم المعروف (محمد دغيش) لم تسأله يا ابي سوى سؤال واحد..لم تسأل عن ماله وحلاله ونسبه وحسبه وبلنتياته واجواله..بل قلت له (هل تلعب هند؟) فاشاح بوجهه خجلا منك ليعمل نفسه مؤدبا وذو خلق جم، وقال ليس كثيرا ياعم..فقلت له مباشرة : " والله شايف الجواكر بتنطنط من عيونك" وفعلا طلع الزلمه لعيب..ودفتر التسجيل جاهز بالجيب.

ولن انسى يا ابي نصيحتك الاخيرة لي وانت تسلم الروح لباريها، حين همستَ في اذني انفاسك الاخيرة..وانا فكرت بدك تحكيلي عن مصريات مخبيهن هون ولا هون..فاذا بك تقول لي بصوت يشبه صوت الرعد..
(يا بني المستقبل مش للطرنيب بل للهند).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Ads Inside Post

عربي